--------------------------------------------------------------------------------
استوحي فيلم "الجــزيــرة" أحداثــه الدراميـــة من واقعتين شهيرتين وقعتــا في جنوب مصر الصعيد .. و كان بطلا الحادثتين هما: عزت حنفي الذي عرف باسم إمبراطور النخيلة، ونوفل الذي سيطر على إحـــدى قــرى نجع حمادي و عرف باسم خط الصعيد، و قد ظل كلاهما عنوانــًا مهمــًا في الصحف و الإعلام، ونسجت حولهما حكايات تتنوع بين البطولة و البلطجة! .. فهما قصــة دراميــة كاملة ترتبط بشكل كامل بالعالم الذي يعيشون فيه حيث تجارة المخدرات وتسلل الأسلحة المهربة وحوادث الإرهاب الخطرة .. و قد قرر المخرج شريف عرفة تقديم رؤية لهــذا العالم من خلال هذين الشخصين، و اختــار الأسلوب البوليسي في المعالجة حتى يتجنب الخوض في تفاصيل كثيــرة مهمــة اجتماعيـــًا صنعت هذا العالم بكل أجوائــــه.
قليلة هي الأفـــلام المصريــة التي تعاملت مع قضايــا و مشاكل جنــوب مصــر، و ظــل الأمــر أشبه بالمغامــرة في سينمـا روادهــا الحقيقيــون من أهل المدينة، و اكتفي السينمائيون بالتعامل السياحي مع كل محافظات الجنوب بكل ما تملكه من ثروة أثرية ليس لها مثيل في الدنيا كلها.. وبالتالي فإن فيلم الجزيرة يظل له أهمية خاصة حتى لو كان عنوانه الرئيسي يقــوم على درامــا بوليسية.
تبدأ أحداث "الجــزيــرة" بمدخل اجتماعي و درامي صحيح يلقي الضوء على أجواء هذا العالم، حيث تكون العائلات الكبيرة هي صاحبة الكلمة الأولي بما تملك من أراضٍ و نفوذ، وحيث يكون شاغلها الأكبر هو الاحتفاظ والحفاظ على هذه المكانة بمزيد من القوة والسيطرة، وبالتالي يكون من المنطقي أن يسعــى كبيـــر الأســرة و زعيمهـــا على حفني (محمود ياسين) إلى إعداد خليفته لتظل للأسرة قبضتها القوية على الجزيرة، و تكون سعادته غامرة عندمــا يرزق بابن منصــور الحفني الذي سيقـــود المنطقة من بعده (أحمد السقا)، و يحرص على تعليمه و منحه الخبرات التي تعلمهــا، و إكسابــه كيفيـــة التعامل مع زراعـــة المخــدرات و تجارتهــا فهي مصدر القــوة الاقتصاديــة للأســـرة، وكيف يدير الأمور مع الأسر الكبيرة الأخــرى، ولا يتهاون في أخذ الثأر، وأن تظل بينه وبين نواب البرلمان و رجال الشرطة في المنطقة مساحات من الــود و إرضـــاء رغباتهـــم.
تمضي الأحداث و تنطلق إلى إطارهــا البوليسي عقب الخلافات التي تقع بين أسرة الحفني، والأسر الأخرى في الصراع على فرض القــوة و النفـــوذ، و تحدث معركة هائلة تجعل منصور الحفني يفقد الكثير من قوته، ليبدأ في إعــداد التخطيط لاسترداد مكانته حيث يسافر للتعاقد على شراء أسلحة، ثم يتحالف مع مطاريد الجبل حتى يصبح له الكلمة العليـــا في المنطقة أو الجزيـرة و في نفس الوقت يقدم خدمات جليلة لضابط الشرطة في المحافظة رشدي وهدان (خالد الصاوي) حيث يساعده في القبض على الإرهابيين الذين يتاجرون باسم الدين، مما يجعل الضابــط الكبيــر يهادنه لأن القضــاء على هؤلاء الإرهابيين كان الشاغـل الأكبــر لجهــاز الأمــن في مصــر.
على هامـش الأحــداث ينسج السيناريست محمــد ديــاب قصة حب بين منصور الحفني و كريمة (هند صبري)، و لكنهــا قصة لا تكتمل بعد أن تتعارك أسرتهــا مع أسرة الحفني على الأرض و النفـــوذ و تجــارة المخــدرات بالجزيــرة، و يتــزوج منصــور من فايـدة (زينــة) التي تنجب له طفلاً تنتهي به الأحداث و هو هـارب في إيحــاء بأنه قــد يكــون الزعيــم القــادم لهــذه الجزيــرة.
يصبح منصــور ديكتاتــورًا كبيــرًا يخشاه الجميع و يخضعون لأوامره حتى عمه حسن (باســم سمـــرة) الذي كان مرشحـًا لقيـادة الأسـرة و المنطقة بعد شقيقه على الحفني .. و تصل معلومات لقيادات الأمــن بالقاهرة عن جبروت منصور الحفني الذي أصبحت تخشاه كل الأُســـر بالمنطقة حتى من يملكون نوابا بالبرلمان.. ويكلف ضابط مباحث شاب (محمود عبد المغني) بالقبض على منصــور تاجــر المخــدرات و الســلاح الكبيــر، و تمضي أحــداث الفيلــم حتى تقع معركة كبــرى بين رجــال منصــور و قــوات الشرطـة بكل أجهزتهــا للقضــاء على إمبراطوريتــه.
معالجة السيناريست محمد دياب التي جاءت محكمة في تطورهــا وتفاصيلهــا، ورؤية شريف عرفة انحازت للشكل القبائلي أو الأســـري في التفاصيل و المعركة بين هذه الأُســر على الزعامة، ثم المعركة الأكبـــر من إمبراطور الجزيرة في مواجهة الشرطة .. بينما مرت مرور الكرام على مسألة القبض على الإرهابيين (التي جعلت منصور يحظى بمكانة خاصة عند أجهـزة الأمـــن)، و أيضــًا في كيفية دخول الأسلحة إلى جنــوب مصـــر، و الأمـــر الثالث كيف أصبحت زراعـــة و تجــارة المخدرات بهــذه القــوة والسيطرة في الجزيرة .. و هذه الأشياء الثلاثة جنحت بالفيلم نحو الشكل البوليسي تماما، ولكن ظلت هذه الخلفية تعطي للفيلم خصوصيته، و جعلته يرصد أجــواء عالم الجزيرة بدرجــة عاليــة من المنطقيــة و الصــدق الفني، حيث ظلت الأحــداث مثيــرة بدرجــة كافيــة على مــدى 150 دقيقة كاملة.
لعب أحمد السقــا واحدًا من أفضـــل أدواره، و اجتهد في تجسيد مشاعر الشخصية سواء في علاقاتهــا العاطفية أو في تعاملها مع الأسرة أو مواجهتها للشرطة و نواب البرلمان، فقد انتقل بين مشاعر مختلفة بمقدرة و بساطة محببة في الأداء .. و أكسب وجود محمود ياسين (على الحفني) الفيلم كله قــوة خاصــة من خلال أداء رفيع لشخصية كبير الأســرة الذي يتمتع بجبروت خاص و طموح و قــوة في مشاعره و معالجته للأمور.
و جاء أداء خالد الصاوي متميــزًا للغايــة في تقمص شخصية العميد رشدي وهدان، و لعب دورًا صعبــًا ببراعـــة، و أيضــًا باســم سمــرة (عم منصور الحفني) حيث وظف عضلات وجهه لإكســاب الشخصية ملامح القسوة و الصرامــة و القدرة المحدودة في الذكاء بقدرات ممثلٍ جيــدٍ جــدًا، و لم تسعف شخصية ضابط المباحث طارق الممثل محمود عبد المغني في تقديم شخصية ملفتة، حيث ظهر وكأنه ضيف شرف على دراما الفيلم .. و في حدود دوريهمـــا كان أداء هند صبري (الحبيبة) و زينــة (الزوجة) موفقــًا.
أفضل ما في فيلم "الجــزيــرة" هو تقديم فنياته و تقنياته بدرجة مدهشـــة من الصدق و الحرفيــة، حيث نجح شريف عرفة المخرج الكبير في صنع عالم و أجواء خاصــة منحت شريط الفيلم ثراءً دراميــًا بدايــةً من اختيار أماكن التصوير و ديكورات فوزي العوامري، و موسيقى عمر خيرت التي نقلت نبض الأحــداث و الشخصيات، و الكاميرا البارعة لأيمن أبــو المكارم في إضفــاء جماليات الضوء و الظلال و منح الشريط كله أجــواءه الخاصـــة، و كان مونتاج داليا الناصر جيــدًا في إيقاعــه المثير، و اختيارات ناهد نصر الدين للملابس و أزيـــاء الشخصيات المختلفة.
إن فيلم "الجــزيــرة" يمثل مفاجأة سارة لعشــاق السينمـــا، ويؤكد أن رؤية المخرج وحدها لا تكفي دون أن يكون ملمــًا بالقدرة و الخبرة على استخدام أدواتــه الفنيــة بحرفيــة و مهــارة تكسب رؤيتــه فنـــًا .. يدهشنــــا.
اعداد: احمد عبدالرؤف
الثلاثاء يونيو 17, 2008 11:39 am